الدليل الفني للطرق والكباري : طريق الحرير من التجارة الى هندسة الطرق والسكك الحديدية والمطارات وبناء الموانئ
بسم الله الرحمن الرحيم

طريق الحرير من التجارة الى هندسة الطرق والسكك الحديدية والمطارات وبناء الموانئ

 

طريق الحرير

 


 


 

 نظرة عامة على طريق الحرير :

 



 

طوال آلاف السنين التي سجل فيها الإنسان تاريخه، كان الشرق مصدرا لقائمة من السلع الثمينة هي الأكثر رواجا في تجارة العالم القديم، وبالإضافة إلى إنتاجهم لهذه السلع لعب سكان الشرق بقسميه الأقصى والأدنى دورا مهما في نقل هذه السلع الثمينة إلى المستهلكين لها في كل موقع من قارات العالم الثلاث المعروفة آنذاك.

وكان المحور العالمي الأكثر أهمية للتجارة الدولة في العالم القديم يمتد من الشرق إلى الغرب ويليه في الأهمية محور آخر يسير بعكسه من الغرب إلى الشرق، وقد نقلت التجارة المتداولة في هذين المحورين على طرق برية وبحرية أطلق عليها بعض الباحثين والأوروبيين مسمى طرق الحرير، نسبة إلى الحرير الصيني الذي كان يعد أنفس سلعة ينقلها التجار على هذه الطرق.

كان لطرق الحرير المتجهة من الصين شرقا مساران رئيسيان:

أحدهما شمالي وهو طريق الحرير البري الذي يبدأ في الصين وينتهي بأوروبا مارا ببلاد آسيا الوسطى والأناضول حتى ينتهي إلى إنطاكيا على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط حيث يواصل بحرا إلى ساحل إيطاليا منها يستمر برا إلى أسبانيا وبلاد أوروبا الغربية ، وتقع على هذه الطريق سلسلة كبيرة من المدن والعواصم العريقة استفادت من وجودها على مساره فكانت مراكز تجارية وحضارية مهمة أسهمت في التواصل الاقتصادي والثقافي بين الشعوب على مر التاريخ. وأما المسار الآخر فيعرف بالمسار الجنوبي وهو طريق الحرير البحري الذي يبدأ من ميناء كانتون بالصين ويعبر بحار الصين ثم يلتف حول سواحل شبه القارة الهندية ليدخل في البحار المحيطة بالجزيرة العربية حيث يتفرع إلى فرعين أحدهما يتجه شمالا في مياه الخليج العربي ليصل إلى بلاد فارس وبلاد مابين النهرين، وفرع آخر يتجه غربا إلى سواحل اليمن والحبشة ثم يسلك البحر الأحمر ليصل إلى سواحل الحجاز ودول حوض البحر الأبيض المتوسط الواقعة في أوروبا وشمال أفريقيا. وتتفرع من هذين المسارين الرئيسين طرق فرعية كثيرة تذهب في جميع الاتجاهات فتصل إلى الأمم الواقعة إلى الشرق من الصين وإلى أقصى شمال أوروبا وأدغال أفريقيا. وعلى هذه الطرق كانت تنتقل إلى جانب البضائع الثقافات وأفكار والدعاة والرحالة والمكتشفون والمغامرون والباحثون عن الحقيقة، ولذلك فان طرق الحرير هي في حقيقتها طرق التجارة الدولية والحوار الحضاري بين الشعوب.  تاريخ التبادلات التجارية بين الصين وجزيرة العرب في طريق الحرير البحري :

 كان الصينيون يجوبون مياه المحيط الهندي منذ العصور القديمة السابقة للميلاد، وكانت سفنهم تقوم برحلات طويلة فيما بين الموانئ الصينية وموانئ الهند الغربية، ومثل ذلك كان يفعل العرب فقد كانت سفنهم تبحر من موانئ الخليج العربي وساحل اليمن إلى موانئ الهند الغربية وإلى ساحل جنوب الهند حيث يلتقون هناك بالتجار الصينيين ويحصلون منهم ومن التجار الهنود على بضائع الصين والهند ويبيعونهم بضائع الجزيرة العربية الثمينة التي كان من أهمها البخور والعطور والنحاس واللبان واللؤلؤ، وبوصول البضائع الصينية والهندية إلى موانئ الجزيرة العربية كان التجار العرب ينقلونها على متن سفنهم وعلى ظهور قوافلهم عبر شبكة من الطرق البرية والبحرية إلى بلاد فارس وبلاد مابين النهرين والشام ومصر وساحل الحبشة وكثر ثراء العرب من التجارة بالمواد الناتجة عن جزيرتهم وتلك المستوردة من الهند والصين، وقد جلب هذا الثراء على العرب نقمة القوى والشعوب المحيطة بجزيرتهم الذين كانوا يتبايعون معهم بتجارة الشرق الأقصى، فمنذ نهايات الألف الثالث قبل الميلاد حاول الأشوريون فرض سيطرتهم على تجارة الشرق التي يقوم العرب فيها بدور الوسطاء فقد عبرت إحدى الوثائق الاكادية القديمة عن نجاح الإمبراطور سرجون ملك أكاد (2300ق م) في جلب مراكب مجان ودلمون وملوخه إلى ميناء أكاد والمعروف أن مجان هي عمان ودلمون هي البحرين وملوخه هي بلاد السند، وقد حاول الفرس أيضا منذ عصورهم القديمة مزاحمة العرب على منافع هذه التجارة فقد جهزوا حملة في عهد إمبراطورهم دارا الكبير (521-485ق م) نجحت في الدوران حول شبه الجزيرة العربية من الخليج العربي إلى خليج السويس ووصلت إلى مصر بهدف السيطرة على مساري طريق الحرير البحري: مسار الخليج العربي ومسار البحر الأحمر والبتالي احتكار تجارة الشرق الأقصى وإقصاء عرب الجزيرة العربية عن الميدان ولكن حملة الملك دارا لم يدم نجاحها ولم تتكرر مرة أخرى في التاريخ ولذلك فهي لا تعدوا كونها مغامرة كما حاول اليونانيون أيضا فرض سيطرتهم على الملاحة في البحر الأحمر وفي الخليج العربي وكانت لهم مستوطنة في جزيرة فيلكة الواقعة حاليا بدولة الكويت، كما أن الفرس في العصور التالية استطاعوا فرض سيطرتهم على تجارة الصين والهند المارة بالخليج العربي ولكن سيطرتهم لم تحرم العرب من المشاركة الفاعلة في حركة هذه التجارة نظرا لخبرتهم الطويلة ومعرفتهم الواسعة ببناء السفن والإبحار في مياه المحيط الهندي. ولحاجة الفرس إلى موانئهم التي كانت تمثل نقطة الانطلاقة لمراكب الصين والهند. ويستمر التنافس بين العرب والفرس على تجارة الشرق في مد وجزر في العصور التالية ففي أيام الفرثيين الذين سقطت دولتهم في فارس في أوائل القرن الثالث الميلادي أصيبت تجارة الخليج القادمة من الهند والصين بنوع من النكماش نتيجة تشجيع الفرثيين لنقل تجارة الصين على الطريق البري الذي يمر عبر أراضيهم، ولكن سياسة خلفائهم الساسانيون جاءت معاكسة فعملوا على تشجيع التجارة على طريق الحرير البحري وانتقل الاهتمام إلى موانئ شمال عمان والبحرين وساحل هجر، وقد لعب ميناء أبو لوكس (الابله) دورا مهما في التجارة مع الصين والهند حيث كان من أهم موانئ أعالي الخليج العربي ومنه كانت تصدر حاصلات بلاد ما بين النهرين وفارس إلى الهند والصين واليه كانت تصل أخشاب الصندل والابنوس والحرير الصيني وكان به مراكز جمركية تجبي الضرائب لكسرى. ولا نجد فيما أطلعنا عليه من مصادر تاريخية وأدلة أثرية ما يشير إلى وصول سفن العرب إلى سواحل الصين أو وصول سفن الصينيين إلى موانئ الجزيرة العربية في الحقب التاريخية السابقة للميلاد او في القرون الأولى الميلادية ولكن المصادر تشير إلى أن البضائع الصينية المنقولة على طريق الحرير البحري كانت تصل إلى الهند على السفن الصينية والهندية ثم تجلب إلى موانئ الجزيرة العربية من أسواق الهند وسيلان على سفن عربية وفارسية وهندية، فقد كانت السفن الهندية تبحر في عصور ما قبل الإسلام في المياه العربية وتصل إلى جزيرة سقطري وإلى ساحل عدن وإلى موانئ صحار والبحرين والابله التي كانت بها جاليات من الهند في تلك الفترة، ودامت شهرت السفن الهندية التي تجوب مياه الخليج وبلغت حدا جعلت أحد شعراء العرب قبل الإسلام وهو لبيد بن ربيعه يضرب بها المثل في طولها وعرضها وفي أحكام عملها.

 الفرع الآخر لطريق الحرير البحري : الفرع الآخر لطريق الحرير البحري





هو الفرع الذي يصعد البحر الأحمر حتى يصل إلى مصر وحوض البحر الأبيض وهنا نجد أيضا أن الممالك العربية التي نشأت في جنوب الجزيرة العربية وفي الشمال على امتداد الطرق البرية المحاذية لسواحل البحر الأحمر فرضت سيطرتها على الملاحة وعلى تجارة الشرق السائرة في البحر الأحمر وساعدهم في ذلك خطورة الملاحة في هذا البحر نتيجة لكثرة الشعاب المرجانية فيه وما يتطلبه من خبرة بالممرات المائية العميقة ومداخل موانيه ومخارجها وهي معلومات حرصوا على بالاحتفاظ بها لأنفسهم. وخلال القرن الأول قبل الميلاد ازدهرت تجارة الشرق المارة عبر الموانئ اليمنية والعمانية، وانشأ أحد ملوك شبوة الذي فرض سيطرته على جنوب عمان ميناء في منطقة ظفار عرف باسم يمهرم سرعان ما أخذت تؤمه السفن المتجهة إلى الشرق. وتصف كتابات الرحالة اليونانيين الذين زاروا المنطقة في تلك الفترة نشاط حركة التجارة في موانئ البحر الأحمر الجنوبية والشمالية، فعن ميناء Muza وهو ميناء المخا يذكر صاحب كتاب الطواف حول البحر الارتيري أنه وجده مزدحما بالمراكب وأصحاب السفن والملاحين العرب والناس فيه في شغل شاغل بأمور التجارة وهي تابعة للملك الحميري كربئيل. وفي شمال البحر الأحمر شاركت ممالك ديدان ولحيان في التجارة البحرية المارة بموانئهم، ويصف سترابون الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد تجارة حلفائهم الأنباط وهم المسيطرون على عدد من موانئ شمال البحر الأحمر مثل لوكي كوفي (ميناء الخريبه الواقع شمال ضباء ) واكرا كومي (مرسي كركمه الواقع جنوب الوجه) ويذكر أن سلع التجارة تنقل من لوكي كومي إلى البتراء ومنها إلى فينيقيه ومنها إلى أمم أخرى، ويصف النبطيين بأنهم قوم حرصاء مولعون بجمع الثروة وأن البضائع التي يتاجرون بها بعضها مستجلب استجلابا كليا وبعضها ليس مستجلب كله ويقدم قائمة بالسلع المستجلبة شملت بالإضافة إلى أشياء أخرى الثياب الأرجوانية والاصطرك والزعفران والقرفة والتماثيل والصور والقطع المنحوتة، ويحتمل أن بعض سلع هذه القائمة مستورد من الشرق. على أن السيطرة على تجارة الشرق العابرة للبحر الأحمر لم تكن للعرب على الدوام في القرون السابقة للميلاد فقد جرتهم منافع هذه التجارة وجرت بلادهم إلى حلبة الصراع والتنافس الدولي وأدخلتهم في مواجهة مباشرة مع القوى الأوروبية القابعة في حوض البحر الأبيض: اليونان ثم حلفائهم الرومان ثم البيزنطيين فلم يكن الحال في البحر الأحمر بأفضل مما كان عليه في الخليج العربي فما إن سيطر اليونانيون على المناطق المحيطة بالجزيرة العربية في مصر والشام والعراق حتى سارعوا إلى فرض سيطرتهم الكاملة على طريق الحرير البحري ولم يكن يضايقهم في ذلك الا التجار والملاحون العرب. وفي عهد خلفاء الاسكندر المقدوني في مصر عمل البطالمة على إعادة القناة القديمة التي كانت تربط بين النيل والبحر المتوسط والبحر الأحمر فأمر بطليموس الثاني 185-146 ق م بإعادتها وسير السفن البحرية من مصر إلى الهند ولحماية تجارة الشرق المحمولة على سفنهم أسكن البطالمة جاليات يونانية في بعض موانئ البحر الأحمر وأطلقوا أسماء يونانية على مستوطناتهم ومنها ميناء امبلوني الذي كان يعتقد وقوعه في ميناء الوجه بشمال غرب المملكة العربية السعودية، غير أن الأبحاث الأثرية التي أجريتها في سواحل البحر الأحمر أثبتت أن امبلوني تقع في جزيرة فرسان حيث يوجد بالفعل في الجزيرة بقايا مبني يوناني الطراز ونقوش يونانية .

طريق الحرير البحري في العهد الروماني :

 في العهد الروماني عمل الإمبراطور أغسطس (اوكتافيوس) على الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى البحار المحيطة بها ولكنه فشل في تحقيق ذلك الحلم، ويذكر المؤرخ اليوناني (سترابو) أن القيصر لعبت في نفسه الشائعات التي تتردد منذ القدم بأن العرب قوم واسعوا الثراء وإنهم يستبدلون الفضة والذهب بعطرهم وحجارتهم الكريمة دون أن ينفقوا على الغرباء ما يحصلون عليه، ولذلك جهز القيصر في عام 25-24 ق م حملة بقيادة حاكمه على مصر ايليوس قالوس دخلت الجزيرة العربية من شماليها الغربي وسارت برا حتى سواحل البحر الأحمر الجنوبية وكان نصيبها في نهاية المطاف الفشل، ولكن هذا الفشل دفع القيصر إلى تشجيع الملاحين الرومان على ارتياد البحر العربية والوصول إلى الهند مباشرة واستبعاد الوساطة العربية في تجارة الهند والصين فزاد عدد السفن التي تسافر سنويا إلى الهند في عهده إلى مائة وعشرين سفينة.

 * طريق الحرير البحري في العهد البيزنطي : في العهد البيزنطي استفادت الموانئ المطلة على الخليج العربي وساحل اليمن من الصراع الاقتصادي بين الساسلنيين والبيزنطيين، حيث عمل الساسلنيون على تقليص تجارة البيزنطيين البحرية المباشرة مع الهند فقلت بذلك سفن البيزنطيين المبحرة في المحيط الهندي والخليج العربي، واكتفت سفنهم بالوصول إلى باب المندب والسواحل الأفريقية للتزند منها بيضائع الشرق ونجح الساسلنيون في نقل تجارة الهند وسيلان والصين البحرية إلى الخليج العربي حيث لا يزاحمهم أحد فكانت بضائع الشرق تمر بموانئ صحار والبحرين حتى تصل إلى الابله بالعراق. ويذكر المسعودي أن سفن الصين والهند كانت ترد إلى ملوك الحيرة الموالين للساسانيين وتدخل في القرات وترسوا في ميناء الابله ومن العراق كانت بضائع الصين تنقل إلى الشام حيث تباع على البيزنطيين وكان أهم مواد تلك التجارة الحرير الصيني الذي اشتد عليه الطلب عند البيزنطيين، ولكن البيزنطيين حاولوا بدورهم ضرب احتكار الساسانيين لتجارة الشرق البحرية وحرمانهم من الأموال التي تعود عليهم من تجارة الحرير الصيني واستعانوا في ذلك بالأحباش ووضعوا لذلك خطة استراتيجية تهدف إلى سيطرة الأحباش على سواحل البحر الأحمر واليمن التي تفصل بين أراضيهم في بلاد الشام ومصر وموانئ تجارة الشرق في المحيط الهندي، فساعدوا الأحباش في الاستيلاء على اليمن، حيث ذكر أن السفن التي نقلت جنود الأحباش التي نقلت جنود الأحباش التي استولت على اليمن سنة 525 م كانت سفنا بيزنطية أمر القيصر بإرسالها إلى الحبشة. وفي عام 531 م أرسل الامبراطور جوستنيان وفدا إلى اكسوم ليفاوض الأحباش في شراء الحرير الصيني والبضائع الأخرى من الهند مباشرة وبيعه للبيزنطيين وقد وافق الأحباش على ذلك، ولإكمال الخطة الموضوعة عمل الأحباش بعد أن استقروا في اليمن على مد نفوذهم على الحجاز والسيطرة على سواحل البحر الأحمر العربية والاتصال أرضا بالبيزنطيين في بلاد الشام ومصر فجهز ابرهة الحبشي حاكم اليمن حملة سنة 571 م للاستيلاء على مكة وضم الحجاز وضرب نشاط قريش التجاري المتمثل في رحلة الشتاء والصيف حيث كان تجار مكة يتجهون في فصل الشتاء إلى اليمن ويشترون بضائع الشرق القادمة إليها ليبيعونها في فصل الصيف في بلاد الشام. ولكن حملة أبرهة لم تحقق أي نصر ولم تخضع مكة لسلطة الأحباش.
ومن جهة أخرى لم ينجح التجار الأحباش في منافسة تجار الخليج من العرب والفرس على تجارة الشرق، فقد كان هؤلاء قد استقروا في سيلان والهند ولعبوا لفترات طويلة دور الوسطاء في هذه التجارة فسقطت بذلك المخططات البيزنطية الحبشية ومما قضى على هذه الأحلام نهائيا تمكن الجيش الساساني الذي وصل إلى اليمن بحرا من طرد الأحباش وبمساعدة اليمنيين الذين كانوا قد أعلنوا ثورة عامة على الأحباش في بلادهم، وهكذا يتضح أن السيطرة على أرباح التجارة الصينية والهندية كانت السبب الرئيس المحرك للأحداث التي شهدتها جزيرة العرب في القرن السادس الهجري. ويرى الدكتور جواد على أن حملة أبرهة على مكة لم تكن غايتها هدم الكعب وحسب وإنما لدوافع اقتصادية وسياسية ويبدو أن هدم الكعبة والذي لم يتم كان مجرد تكتيك ورمز للسيطرة على القرشيين والعرب.

طريق الحرير البحري في العهد الإسلامي :

 في بداية القرن السابع الميلادي شهدت جزيرة العرب حدثا مهما غبر مجرى التاريخ فيها الا وهو دعوة الإسلام التي أنزلها الله على نبيه محمد في مكة، وخلال سنوات قليلة انتشرت هذه الدعوة وعمت جزيرة العرب وأصبح لها دولة قوية عاصمتها المدينة، وفي نقلة سريعة أخرى امتدت دولة الإسلام شرقا وغربا وشمت أملاك القوتين الساسانية والبيزنطية ولم يبدأ القرن الثامن للميلاد إلا ونفوذ المسلمين يصل إلى الحدود الغربية للصين، وبذلك أصبحت الأجزاء الكبرى من طريقي الحرير البري والبحري واقعة في ديار الإسلام وخاضعة لنفوذ المسلمين هنا. تبدأ صفحة جديدة في تاريخ العلاقات التجارية بين الصين وبلاد الإسلام عامة والجزيرة العربية على وجه الخصوص. لقد خلقت الفتوحات الإسلامية كتلة اقتصادية عالمية كبيرة شملت مصر وشمال أفريقيا والجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وإيران وأجزاء كبيرة من أواسط آسيا، كما جمعت لأول مرة في التاريخ الخليج العربي والبحر الأحمر تحت سلطة واحدة وكان لموقف الصينيين السلمي من هذا المد الإسلامي أكبر الأثر في تطور التجارة بينهم وبين أكبر كتلة اقتصادية شهدها العالم القديم، فلم يدخل الصينيون في صراع مع المسلمين الذين اقتربوا كثيرا من حدودهم بل استطاعوا بحكمتهم المعهودة التكيف مع الوضع الدولي الجديد والتغير الذي طرأ على موازين القوى في العالم فسارعوا إلى الدخول في علاقات سلمية مع المسلمين وركزوا على تطوير التجارة واستفادوا من الأمن والاستقرار الذي وفره المسلمون على مسارات طرق الحرير البرية والبحرية فانطلق الصينيون بأنفسهم ينقلون بضائعهم إلى ديار الإسلام وأخذت سفنهم تبحر شرقا إلى الموانئ العربية في الخليج والبحر الأحمر وساحل اليمن وحضرموت، وبالمقابل سهلوا للتجار العرب المسلمين الوصول إلى بلادهم والإقامة بها ومزاولة التجارة في حرية وعدل وأمان وأصبحت السفن العربية تصل بدورها مباشرة إلى ميناء كانتون. وأول إشارة في المصادر العربية عن العلاقات السياسية بين الصين والجزيرة العربية في العهد الإسلامي يرجع تاريخها إلى عهد الخلفاء الراشدين، إذ تذكر المصادر العربية أن فيروز بن يزدجرد ابن ملك الفرس طلب مساعدة إمبراطور الصين في صد غارات جيوش العرب المسلمين الذين استولوا على بلاده وقتلوا أباه، وأن إمبراطور الصين اعتذر له ولم يقدم له العون العسكري الذي طلبه محتجا ببعد المسافة واكتفى بإرسال سفير من قبله إلى المدينة ليشرح قضية فيروز، وقيل أن الخليفة الراشد عثمان بن عفان أرسل أحد قواده لمرافقة السفير الصيني في عودته سنة 651م، وأن إمبراطور الصين أكرم وفادة القائد المسلم. أما المصادر الصينية فقد ذكرت المسلمين لأول مرة في بداية القرن السابع الميلادي، فقد أشار مؤرخوا الصين في ذلك القرن إلى الدين الجديد الذي ظهر في مملكة المدينة، وتشير المصادر الصينية أيضا أن جماعة من المسلمين قدموا إلى كانتون في بداية حكم أسرة تانغ (618-907) وحصلوا من إمبراطور على أذن بالإقامة فيها واتخذوا لأنفسهم بيوتا جميلة تختلف في طرازها عن البيوت الصينية، وهناك قصة مشهورة في المصادر العربية عن حادثة وقعت بين الصينيين والفاتحين المسلمين في العصر الأموي بطلها القائد المشهور قتيبة بن مسلم الباهلي، وهو من قبيلة تسكن في وسط جزيرة العرب في منطقة نجد غير بعيد عن مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، فقد فتح هذا القائد زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (705-715م) مدينة بخارى وسمرقند ووصل إلى حدود الصين وحلف ألا ينصرف حتى يطأ أرض الصين، وبعث إلى إمبراطورها وفدا، وبعد حوار طويل مع الوفد بعث إليه إمبراطور الصين بحرير وهدايا متنوعة وصحاف من ذهب بها تراب من تراب الصين ليطأه بقدمه ويتحلل من يمينه، فقبل قتيبة الهدايا ووطأ التراب وقفل راجعا. وفي الفترة نفسها تذكر المصادر التاريخية الصينية أن رسولا جاء من قبل الخليفة هشام بن عبد الملك إلى الإمبراطور الصيني هسوان تسونج سنة 726م \ 108هـ ، وتشير المصادر الصينية أيضا أن العرب حلوا محل الفرس في أوائل القرن الثاني الهجري (8م) في السيطرة على تجارة الحرير كما تشير أيضا إلى تاجر عماني قام برحلة إلى الصين واسمه أبو عبيد الله عبد الله بن القام وقد وصل إلى الصين حوالي سنة 133هـ \ 750/ واشترى الأخشاب.

تشانغ تشيان رائد في شق طريق الحرير البري:

 لقد تقدم في صحراء غوبي المترامية الأطراف موكب من المسافرين الذين يرتدون أزياء من عهد أسرة هان الغربية متجها إلى الغرب. وكان المسافرون يمشون في تمهل بعد أن أجهدهم السير الطويل، وأضناهم الحر والعطش، ولفحت وجوههم أشعة الشمس المحرقة. ونظر قائدهم وقد علت على وجهه علائم القلق إلى أوعية الماء الفارغة على ظهور الجمال متسائلا: متى يمكنهم العثور على واحة ؟ لقد وقع هذا المشهد على الطريق المؤدية إلى المناطق الغربية قبل 2100 سنة. اما هذا القائد فهو تشانغ تشيان المكتشف المشهور من عهد أسرة هان الغربية في الصين. وفي عام 138 قبل الميلاد قاد تشانغ تشيان وفده المكون من 100 شخص إلى المناطق الغربية وذلك بأمر من الإمبراطور هان وو دي. وبعد الرحلة الشاقة والتغلب على ما لا يحصى من الصعوبات والمخاطر نجح في شق طريقه من وسط الصين إلى المناطق الغربية وهذه هي طريق الحرير الذائع صيته في العالم منذ قديم الزمان. إن تشانغ تشيان (؟ - 114ق م) رحالة فذ من عهد أسرة هان الغربية (206ق م ¨C 25م)، كان قد ارتحل إلى الغرب مرتين على التوالي. وبالنسبة لتاريخ ميلاده لم يسجل في الكتب التاريخية، بل ذكر فيها أنه أصبح رجلا مفتول العضل حين دخلت أسرة هان الغربية الحقبة الذهبية من عهد تولى الامبراطور هان وو دي العرش (140-87 ق م). حينذاك كان تشانغ تشيان من حاشية هان وو دي ، وكان مسؤولا عن حراسة أبواب القصور الامبراطورية في الأيام العادية. وكان مشرفا على تهيئة العربة والحصان للإمبراطور حين يرحل إلى الخارج. ورغم أن مكانته وراتبه منخفضان الا أن كفاءته الفائقة حظيت باهتمام وإعجاب هان وو دي. ولذلك عندما قرر الإمبراطور إقامة الاتصال مع المناطق الغربية اختار تشانغ تشيان رسولا له . وفي عهد أسرة هان الغربية كانت المناطق الغربية تعني مناطق غرب وسط الصين، أي منطقة شينجيانغ حاليا، أو المناطق الواسعة في آسيا الوسطى والغربية غرب قلعة يويمن في مقاطعة قانسو، وبعض المناطق في أوروبا اليوم . وفي تلط الأيام فصلت الجبال الشاهقة المتراصة وصحراء غوبي المترامية الأطراف بين وسط الصين والمناطق الغربية الوسعة. وفي عام 138ق م وجه الإمبراطور هان وو دي رسوله تشانغ تشيان لأول مرة إلى المناطق الغربية لاستنهاض أهل قومية داروتشي هناك (قومية بدوية عاشت على شواطئ نهر ييلي اليوم) للمقاومة معا ضد شيونغنو (الهون). وشيونغنو قومية بدوية قوية في شمال الصين في التاريخ القديم، كانت تعتدي على وسط الصين من حين لآخر منذ أوائل أسرة هان الغربية، وقد سيطرت على ممر خشي منفذ وسط الصين إلى المناطق الغربية، مما شكل تهديدا خطيرا على أسرة هان الغربية. ولذلك قرر الإمبراطور هان وو دي شن الحرب ضد هذه القومية الخطرة. ولكن قبل تنفيذ هذه الأعمال العسكرية أرسل تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية للاتحاد مع الأقليات القومية الأخرى هناك. وفي هذه المرة قاد تشانغ تشيان 100 شخص متجها إلى الغرب، وكان دليلهم قان فو من عبيد قومية شيونغنو. وانطلق من تشانغآن عاصمة أسرة هان الغربية، وسار على امتداد نهر ويخه، واجتاز جبل تشينلين، ثم عرج على الشمال الغربي، وعبر النهر الأصفر، حتى وصل إلى منطقة ممر خشي. وعندما مروا بأرض شيونغنو قبض تشان يوي زعيم شيونغنو عليهم، فحجزوا هناك عشر سنوات. وخلال هذه القترة زوج الزعيم تشان يوي رسول أسرة هان الغربية تشانغ تشيان من إحدى نساء شيونغنو محاولا استمالته إليه. وفيما بعد أنجبت زوجته له ولدا. ولكن هذا لم يوهن عزيمة تشانغ تشيان الرامية إلى تأدية رسالته الشريفة. وفي عام 129 ق م هرب تشانغ تشيان مع وفده من أيدي جنود شيونغنو مستغلا إهمالهم بحراستهم. ثم واصل السير نحو الغرب، فمر بتشاشي في حوض توربان، ودخل يانتشي، ثم عبر قويتسي شرق كوتشار، وسور (كل الأماكن المذكورة في هذه الطريق هي في منطقة شينجيانغ حاليا)، ووصل إلى داوان ،وهي دويلة زراعية متطورة، تشتهر بإنتاج الأرز والقمح والنبيذ. وعندما عرف ملك داوان مجيء رسول أسرة هان الغربية إلى دويلته فسرعان ما استقبله مسرورا، إذ أنه سمع أن أسرة هان الغربية غنية جدا، ورغب في إقامة الاتصال معها منذ مدة طويلة. ثم أرسل رجاله ليرافقوا تشانغ تشيان ووفده إلى كانغجيوي داخل حدود الاتحاد السوفياتي السابق، كما أرسل أهل كانغجيوي تشانغ تشيان ووفده إلى داروتشي. أما داروتشي فأرضها خصبة وأهلها يعيشون في سعادة وسلامة، فلا يرغبون في محاربة شيونغنو من جديد. فلذلك لم تتوصل أسرة هان الغربية إلى نتيجة مع داروتشي حول المقاومة المشتركة ضد شيونغنو. وفيما بعد عبر تشانغ تشيان نهر ويشيوي (نهر آمو اليوم)، ووصل إلى مدينة لاتشي (واتشيرباد في افغانستان اليوم) الواقعة في داشيا (الدويلة القديمة في آسيا الصغرى)، حيث تجول تشانغ تشيان ووفده في كل مكان، وعرف كثيرا عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبعد سنة واحدة قرر تشانغ تشيان العودة إلى بلاده. وفي عام 128 ق م انطلق تشانغ تشيان ووفده في طريق عودتهم. ومن أجل تجنب شيونغنو لم يعد إدراجه، بل تحرك من داروتشي، وتسلق الجبال الشاهقة، ثم سار على امتداد السفوح الشمالية لجبال كونلون متجها إلى الشرق، ومر بيارقند ويويتشنغ (خوتيان في شينجيانغ اليوم). ولكن شيونغنو أسره مع وفده مرة ثانية في طريق عودتهم. وبعد أكثر من سنة هرب تشانغ تشيان وزوجته إلى أسرة هان الغربية. واستغرقت هذه الرحلة التي أداها تشانغ تشيان 13 سنة، من عام 138 ق م إلى عام 126 ق م . ورغم أن تشانغ تشيان لم يؤد فيها الرسالة السياسية الرامية إلى الاتحاد مع داروتشي إلا أنه بصفته رسولا رسميا لأسرة هان الغربية نجح مع وفده في فتح المناطق الغربية لأول مرة، واستقصى بنفسه عن المواصلات البرية من الشرق إلى الغرب، وشق ((طريق الحرير)) المشهورة في العالم التي تؤدي إلى قارة آسيا وقارة أوروبا. وإن رحلة تشانغ تشيان هذه عززت الاتصالات والصداقة بين أبناء قومية هان وأبناء مختلف القوميات في المناطق الغربية، وبين الصين وبلدان آسيا الوسطى والغربية، كما تركت أثرا عميقا في تاريخ الصين وفي تاريخ الاتصالات بين الشرق والغرب. استمرت الحرب بين أسرة هان الغربية وشيونغنو بضع عشرة سنة ، فانتهت بانتصار حاسم لأسرة هان الغربية، مما استأصل تهديد شيونغنو لأسرة هان الغربية منذ مدة طويلة، وفتح المواصلات بين أسرة هان الغربية والمناطق الغربية من حيث الأساس. ومن أجل تطوير العلاقات الوثيقة بين أسرة هان الغربية ومختلف القوميات في المناطق الغربية ومن أجل توسيع الاتصالات مع بلدان آسيا الوسطى والغربية وجه الإمبراطور هان وو دي رسوله تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية مرة أخرى في عام 119 ق م. وفي الرحلة الثانية قاد تشانغ تشيان وفده المكون من 300 شخص ومعهم كميات ضخمة من النقود الذهبية والحرير وعشرة آلاف رأس من الأبقار والأغنام. وهذه المرة لم تكن اتصالا وديا فحسب، بل كانت اتصالا لتبادل الموارد ذات الحجم الكبير. ومنذ شق تشانغ تشيان طريق الحرير كانت مختلف الأسر في الصين تزيد من طول هذه الطريق القديمة وتعمل على تطويرها. إن الصين موطن الحرير، كما هي أول دولة في اختراع صناعة الورق والبارود وطباعة النفش. ومنذ فتح تشانغ تشيان المناطق الغربية سارت مواكب التجار الصينيين من مختلف الأسر بعد أسرة هان على طريق الحرير ذهابا وايابا، حاملين الحرير والأوراق والمنتجات النفيسة من الدول الواقعة على جانبي طريق الحرير. ولذلك أن شق طريق الحرير وتطورها هو خلاصة حكمة وعرق شعوب مختلف بلدان آسيا الوسطى والغربية، وإن هذه الطريق أصبحت طريق صداقة تربط بين الصين والدول في آسيا الوسطى والغربية وأوروبا.

 

ليست هناك تعليقات: